محمد فوزي البنا بتاريخ: 16 أبريل 2008 تقديم بلاغ بتاريخ: 16 أبريل 2008 العولمة.. وما أدراك ما العولمة؟ د.فهد العرابي الحارثي رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلاام - الرياض د.فهد العرابي الحارثيالعولمة.. هي كلمة يلوكها مثقفونا في كتاباتهم وخطبهم بين مبشرين ومنذرين، وفرحين وخائفين، ومقبلين ومدبرين. ونحن بين الفرح والخوف، والإقبال والإدبار، نغرق في الحيرة والتردد. هل نحن مع شروط العولمة أو ضدها؟ وهل نحن ضمن السباق أو خارجه؟ شيء واحد فقط نحسه يتحرك من تحتنا؛ هو إرهاص المستقبل الغامض، الذي لا ندري إلى أين سيأخذنا؟ فنحن خلوٌ من العدة والعتاد، ونحن لم نقدر بعد على تحديد ملامح الطريق. هل يكون الكلام عن العولمة، إذن، ترف معيب، في زمن يعمه الجهل ويسوده الحقد والضغينة، نتيجة عشائريات ضحلة عرقية وطائفية ودينية، ونتيجة أطماع وغايات يشيب لها الرضيع ويندى لها الحجر؟ العولمة.. هذا الشيء الذي غيّر العالم ولم يغيرنا، ولم يعدنا نحن إلاّ بظلمات وراءها ظلمات. في عام 1947م، انبرى مارشال مك لوهان، صاحب القرية الكونية، ليقرر بأن لا الحروب ولا الصراعات، لا الانتصارات ولا الهزائم، ستغيّر في طبيعة المجتمع الإنساني ومستقبل علاقاته، وإنما الشيء الوحيد الذي سيكون له الفاعلية في التغيير هو تكنولوچيا الاتصال. فتكنولوچيا الاتصال، هي التي ستتيح تواصلا إنسانياً لا ينقطع، تواصلاً يذيب الفوارق، ويزاوج الأفكار، ويوحد السلوكيات. تواصلاً ينقل، في الوقت ذاته، ساحات الصراع إلى مجالات وفضاءات وأشكال متعددة، غير الحروب أو نوازع التوسع الأخرى، العسكرية وغير العسكرية. إن إذابة الفوارق، وتزاوج الأفكار، تعني، في غاياتها النهائية، ذلك الحلم البعيد، الغائر في الماضي، الباهت البارد في الحاضر، الشارد المشرد في المستقبل.. أي العالمية أو المجتمع الإنساني الواحد. ولم تستطع هذه الفكرة المثالية أن تتخلص من رومانسيتها إلاّ بعد أن اهتدت القوى الكبرى في الكون إلى صيغة تستجيب للحلم وتحقق لتلك القوى، مزيداً من النفوذ والأطماع، بل تدفع إلى إعادة حياكة العالم على صورة واحدة لن يكون للمستضعفين فيها من نصيب، ومنهم طبعاًً العرب، وهذا هو ما يُعبَّرُ عنه اليوم بالعولمة. فهذه العولمة، في إطارها التنفيذي، تبدو وكأنها تهدف إلى تحقيق الجزء المهم من ذلك الحلم القديم، للمجتمع الإنساني الواحد، فهي تقترح أنماطاً من الأفكار، ونماذج من المواقف والتصرفات والسلوكيات، تقتضي كلها الشروع في القضاء على الفوارق، وتوحيد الأهداف، وتنمية مساحات المشترك البشري العام. فالعولمة تنادي، إذن، بالتخفيف من حدة التناقضات والتعارضات والتصادمات. وهي اليوم، في وجهها البهيّ، الليبرالية والنيوليبرالية، وهي الديموقراطية، وهي الشركات المتعددة الجنسيات، وهي السوق المالية الموحدة المفتوحة، وهي التجارة الحرة ورأس المال الطليق، وهي شبكات الاتصال المتقدمة، وهي تدفق المعلومات وتبادلها. إن التواصل الكامن في طموح العولمة هو، حسبما يعبر عنه بعض المثقفين المهتمين، تدشين لعصر ما بعد الدولة القومية، أي الثورة الجديدة في التاريخ، التي ستكون قوتها المجموعة الإنسانية، بدل الجماعة الوطنية والقومية. ويتساءل أحد الباحثين؛ هل هو انتقال من النمط الذي صنع القبيلة والشعب والأمة في العصرين الوسيط والحديث، إلى بنية إنسانية أشمل؟ ذلك، على الأقل، ما توحي به عبارة العولمة، غير أن الأمر في المطاف الأخير لا يعدو أن يكون فرضية فحسب، والتاريخ القادم وحده قمين بأن يقيم الدليل عليها، أو يرفع لباس الادعاء عنها، وتجريدها منه. ومثل هذا القول؛ إنما يعكس ضعف الإيمان بنجاعة العولمة، ويعكس القلق الشديد أيضاً حيال نتائجها. ساركوزي ليس هذا هو كل ما في العولمة، فهي أيضاً تدفقات وموجات، تخترق السيادة الوطنية والهياكل الاقتصادية، والمقومات الثقافية، وأنماط التفكير والسلوكيات الخاصة بالشعوب والحضارات، وهي تحقق للأقوياء، أكثر مما حققته عمليات الاجتياح العسكرية، أو التطلعات الاستعمارية القديمة. والخاسر الوحيد هم دائماً الضعفاء، أو الذين لم يتمكنوا من بناء رصيد تكنولوچي واقتصادي مؤثر، مثلنا نحن العرب. إلغاء السياسي إن من الوسائل المثيرة في مشروع العولمة، التطور التقني المذهل في وسائل الاتصال الحديثة في العالم، ما جعل كل العالم حاضراً في كل العالم، دفعة واحدة، وهذا ما أسهم في فضحنا، وفي الكشف عن سوءاتنا وعوراتنا، فهو رفع الستر عنا فتحولنا، رغماً عنا، إلى فرجة لعالم اليوم، أمة لا علاقة لها بماضيها الذي كان مجيداً، ولا بمستقبلها الذي لا تعرف كيف ستكون نهايته. إننا لم ندرك بعد أن في ما فعلته العولمة هو إلغاء تام للمسافات، وإلغاء أيضاً للفضاء القومي، فلم يعد أحد سيداًً على فضائه، حتى في بيته. وإلغاء الفضاء القومي، قلل كثيراً من نفوذ السلطات المحلية، بل إن هناك من المثقفين المعنيين بالعولمة من يعبر عن هذا الواقع الجديد بما يسميه إلغاء السياسي أو نهاية السياسي، وهو واقع جديد في عالم اليوم، يتخذ شكلين واضحين من التفكير والممارسة: الشكل الأول: يتعلق بالإجراءات، وبتغير مفاهيم النفوذ والقوة ومواقعهما. وهذا يرتبط بما يسمى أقصدة العالم، أو أقصدة الحياة. فالتخصيص، مثلاً، سحب امتيازات كثيرة من حوزة السياسي، فهو، في واقع الأمر، تنازل الدولة عن عدد من سلطاتها للقطاع الخاص؛ الكهرباء، الهاتف، الطيران، البريد، السكك الحديدية، والطرق والموانىء والمطارات. بل إن هناك في صفوف النيوليبراليين، كما يذكر بعض المثقفين، من يطالب بتخصيص الأمن الداخلي والخارجي، أي الشرطة والجيش. وهكذا يأخذ مبدأ السيادة الداخلية في التقلص والتقهقر. وإن فكرة تحويل العالم كله إلى سوق واحدة خاضعة لسيطرة الشركات الكوكبية؛ هي أمر يفضي، أيضاً، إلى مثل هذه النتيجة. يقول أحد الباحثين؛ بعد أن كانت الرأسمالية تستند على قوة الدولة ودورها في تأمين مصالحها، أصبحت الرأسمالية متعددة الجنسيات، وهي في موقع قوي يمكنها من الاستغناء، إلى حد غير قليل، عن بعض وظائف الدولة التقليدية، فهي لم تعد في حاجة إلى قوات مسلحة ضخمة وقوية لتأمين مصالحها الخارجية، إذ إن قوتها الاقتصادية تمكنها من دخول أي دولة. وربما يفسر هذا عمليات خفض نفقات التسليح في الدول المتقدمة، والإلغاء التدريجي للجيوش، والتحول إلى جيوش محترفة قليلة العدد نسبياً، وذات تكنولوچيا بالغة التعقيد. لا مجال، إذن، لأن تكون كامل المصالح الاقتصادية الجديدة تحت هيمنة القوى الداخلية للدولة، بل لابد أن يحكمها قانون لا سلطان لأحد عليه إلاَّ السلطة المخولة بتنفيذه، وهي سلطة الشركات المتعددة الجنسيات، ومن ثم منظمة التجارة العالمية، التي بشرت منذ مولدها بأنظمة جديدة، من شأنها أن تنظم حركة السوق، وحركة التبادل. الشكل الثاني: يتعلق بأساليب الحكم، وبمستوى جديد من مستويات العلاقات الدولية. وهذا الشكل يرتبط بنفوذ الإعلام، وقوة سطوته. ويقول أحد الباحثين؛ صار رؤساء الدول، اليوم، غير مطلقي التصرف. وصارت القيود التي تقيد حركتهم، ليست صادرة من الناخبين المحليين فقط، بل تقيد سلوكهم مبادىء عامة، يحميها نظام دولي جديد مفتوح. فالطغيان والاستبداد والديكتاتورية، التي تمارسها بعض الأنظمة، لم تعد بمنجى من محاسبة العالم كله. أما العلاقات الدولية؛ فقد دخلت مستوى جديداً ومثيراً من مستويات العولمة، إذ أخذ يتحكم في تلك العلاقات الواقع الجديد لتداخل المفهومات وتماهي الأنظمة وتشابك القيم. وقد أدى هذا الوضع إلى إلغاء ما هو تقليدي في تلك العلاقات، ليضع في مكانه الجديد المتداخل المتماهي، ما رفع، في وقت سابق، على سبيل المثال، الحماية عن رجال اعتبروا، في تقويمات العالم الجديد، من أكبر المنتهكين لحقوق الإنسان، (الچنرال بينوشيه/ تشيلي، رولار كابيلا/ الكونغو، صدام حسين/ العراق)، وقديماً كان هذا يدخل في باب انتهاك العلاقات الدولية، والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان والشعوب، أما اليوم فهو أصبح شكلاًً من أشكال سيادة القوانين الإنسانية المشتركة، وهو مازال يكتسب الدعم الكامل من الإعلام ومن المنظمات والهيئات الدولية، الرسمية والأهلية، ما يشكل إزعاجاً غير منقطع للمتضررين منه، ومنهم بالتأكيد العرب. العولمة الثقافية العولمة الثقافية هي الشكل الذي تفضي إليه كل أشكال العولمة الأخرى. فهي تهيىء، في واقع الأمر، المناخات اللازمة لنمو العولمة الثقافية التي تتمتع بقوة دفع، كما يذكر أحد الباحثين، لا تتغذى من الزخم التقني الكثيف، الذي يشهده ميدان الاتصالات فحسب، بل إنها تفيد من آليات العولمة الاقتصادية أيضاً. فالعولمة الثقافية، تستغل النتائج التي حققها الإعلام والاقتصاد في تحطيم الحدود، وإلغاء السيادات الوطنية أو التهوين من قوتها. وهكذا تمضي العولمة، بهذا المعنى، إلى تعميم أو توحيد الاتجاهات والسلوكيات، التي شملت وتشمل كل سكان هذا الكوكب. ويذكر تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في الشأن الثقافي؛ أنه من مانيلا إلى ماناجوا، ومن بيروت إلى بكين، وفي الشرق وفي الغرب، وفي الشمال وفي الجنوب؛ أصبحت أشكال الزي والمظهر (الجينز، وتصفيفات الشعر الخاصة، وال تي – شيرت) والموسيقى، والعادات المتعلقة بتناول الطعام، والمواقف الاجتماعية والثقافية، أصبحت كلها تشكل اتجاهات عالمية. وحتى الجرائم، سواء كانت تتصل بالمخدرات، أو الاختلاس، أو الفساد، أصبحت متشابهة في كل مكان. ومهما قلنا أو نقول عن الانكفاءات، التي نتجت وتنتج للوهلة الأولى عن صدمة العولمة؛ فإن ما حدث اليوم في دولة ذات تاريخ وتراث عريقين، مثل فرنسا، لا يمكن فهمه إلاّ في ضوء ما تتعرض له مجتمعات اليوم من تغيرات وتحولات، لم يكن لأحد أن يتنبأ بها من قبل. إن العولمة الثقافية، وكما يرى بعض الباحثين، هي اغتصاب ثقافي، وعدوان رمزي على سائر الثقافات. وهي تعني أن ينشأ في وعي الناس ثقافة، أو قيم ثقافية، لا تقوم صلة بينها وبين النظام الاجتماعي (داخل الكيان القومي). وهي ستحمل منظومات من الأفكار والقيم لم تخرج من رحم التطور الاجتماعي الطبيعي. وهذا هو ما يحدث في جميع دول العالم، وهو واقع جديد، يحتم على الشعوب المغلوبة، التي تعيشه، أن تقرأ العولمة، من حيث هي، بلا مواربة أو مخادعة، استراتيچية قمعية أطماعية، أي في غير ما تبدو عليه في إطارها التنفيذي. إنها، في حقيقة هذا الواقع الجديد، سيادة مطلقة لثقافة الغالب، وإنها كذلك تكريس صريح وواضح لأفكاره وسلوكاته، بل أنها فرض قسري مستبد؛ حتى لأنماط المعاش اليومي لدى شعوبه، وفي داخل مجتمعاته. فالعولمة، هكذا، جنة من جنات الغالب، التي ظل سنين طويلة يخطط لها، ويحلم ببنائها وتشييدها، ومن ثم بالمكوث فيها إلى أبد الآبدين. وهي، هكذا أيضاً، وبالمقابل، نكال على المغلوبين، مثل فرنسا، ونقمة على المستضعفين، مثل العرب، فهي تدمير لمقوماتهم الخاصة، ومسخ لهوياتهم، التي ظلت دائماً تؤكد، هي من جهتها، حقائق الجغرافيا ومسلمات التاريخ. إن العولمة، هي أفكار القوة، وهي نماذجها الثقافية الحضارية. وهي، لسوء حظنا وحظ أمثالنا من المستضعفين، تسير دائماً في اتجاه واحد، ولم نر مطلقاً أنها سارت في الاتجاهين؛ الذهاب والإياب. لذا فإن العولمة، بتعبير بسيط آخر، هي أكذوبة القوي على الضعيف، وهي استدراج له إلى ساحات معقدة من ساحات التعايش الممكن، في الوقت الذي يعلم فيه أنه لا يدرك من أنظمة تلك الساحات أي شيء. ومن أبرز نقاط الضعف في إدراك أنظمة تلك الساحات، الوهن الشديد في العلاقة بالنظام الثقافي المسيطر، وهو النظام المتمثل اليوم في عشرات الإمبراطوريات الإعلامية الضاربة، التي تزخ ملايين الصور يومياً، فيستقبلها مئات الملايين من المتلقين، في سائر أنحاء المعمورة، ونحن من بينهم. إن العولمة على هذا النحو، هي هدف غير نزيه، وهي غاية ليست دائماً شريفة، لأنها بطبيعتها، تفتقر إلى ما يمكنه طمأنة الضعفاء والمغلوبين، بحيث تظهر لهم الحد المقبول من الحياد الموضوعي. فالانحياز فيها واضح، بل أن ذلك الانحياز هو طاقتها الكامنة، أو هو فكرتها المركزية، أو هو محركها الأول والأخير. خطاب العولمة هل العولمة ضد التنوع الحضاري، وضد التعدد الثقافي، وضد الاختلاف البشري؟ إن خطاب العولمة المعلن، لا يبوح أبداً بشيء من ذلك، فهو أكثر التواءً مما نتصور، لكن التطور العفوي أو التلقائي، لمشروع الثقافة الكونية الجديدة المزعومة؛ يقتضي، بالضرورة، الاعتقاد بأن العولمة هي ضد التنوع، وهي ضد التعدد. ونحسب، أن ذوبان العوائق الجغرافية، وتخاذلها، أمام أنماط النفوذ السياسي والاقتصادي والإعلامي؛ هي التي أدت، وستؤدي، إلى مزيد من الانهيارات الثقافية والوجدانية. والثقافات المستندة إلى القوة السياسية والاقتصادية؛ إنما تريد أن تعيد صياغة العالم على صورتها. وهذا يقتضي مسخ الثقافات المحلية أو الخاصة، أو هو سيفضي إلى هدمها وتدميرها، فتكون النتيجة أن لا مكان لفكرة التنوع أو التعدد في هذا العالم. المقاومة الممكنة.. وغير الممكنة إن أخطر صور العولمة التي تواجهنا؛ هي العولمة الثقافية، القادمة من جهة الإعلام. فنحن، نحتاج إلى أن نقاومها، ومقاومتها لا تأتي بإصدار القرارات الرسمية أو الإدارية برفضها، لكن مقاومتها تأتي بالتعامل معها وفق البدائل التي نصنعها، ونقدمها للأجيال، وذلكم يحتاج إلى تعبئة قومية حضارية شاملة، ويحتاج إلى محاولات جادة ومخلصة لإعادة اكتشافنا. كيف يمكن الخروج على شروط هذا العالم الجديد الذي يتغير ويتشكل أمام عيوننا؟ لا مجال. والأجدى هو أن نجاريه، ونباريه، ونسابقه، قبل أن يبتلعنا أو يدهسنا، أو يركز أعلامه فوق رفاتنا. ومجاراته، تأتي بالخروج من قوقعتنا، ومن انكفائنا، وبالأخذ بوسائله، وباللعب بسيوفه، وبالنزول إلى ساحاته، فنتحول إلى شركاء له، نعرض بضاعتنا إلى جانب بضاعته، ونصعد هامة المنابر التي يرتقيها، فلا نتركه يستحوذ على السوق وحده، فلا تجد أجيالنا غيره، ولا تقابل من هو سواه. ونحن، على يقين بأن في ما لدينا ما يغرينا، وبأن في ما عندنا ما يروينا، إذا ما أخلصنا النية، وإذا ما أحسنا العمل، وإذا ما كانت ثقتنا في أنفسنا أكبر مما هي عليه في واقع الأمر. ونحن إذا اكتفينا في مقاومتنا، بمجرد الصد والرد، فسنكون كمن يحارب طواحين الهواء، فلا السلاح هو السلاح، ولا الأهداف هي الأهداف، فالسلاح وهن، والهدف وهم. وإذا أردنا أن يكون لنا موقع قدم، ولو متواضع جداً، في عجلة العولمة السريعة، فنؤثر كما نتأثر، ونعطي كما نأخذ، أقول لكم بكل ثقة، بأن ذلك ممكن جداً، على الرغم من عدم سهولة المهمة البتة، فقد أثبتت الأحداث والتاريخ، أن شعوب العالم تستطيع أن تنصت إلينا عندما نقول مفيداً، وفي ثقافتنا، وفي حضارتنا، كثير مما هو مفيد. إن الدخول في العولمة باتجاه الآخر؛ أمر ممكن إذا ما وجد التصميم، وإذا ما توفرت الإمكانات اللازمة لذلك، وليس صحيحاً دائماً أن الآخر لا ينصت إلا لصوته، ولا يطرب إلا لغنائه هو، وتغريده هو. لا شيء يستطيع أن يلغي الشمس إذا ما سطعت، أو يلغي القمر إذا ما اكتمل، والسماء مفتوحة لكل من خلق الله.. فهل نصعد؟ لقد أثبتنا نحن العرب أننا، بالفعل، غير قادرين على إعادة اكتشاف ثقافتنا، وغير موفقين، في معظم الأحيان، في إعادة صياغتها، فنحن لا نقول إلا المكرور، الباعث على الملل. ونحن لا نبحث إلا عن الجامد المثير للسأم. فأمام العجز عن الاستجابة العملية للنهم المعلوماتي أو الإعلامي، كثافةً، وأمام إصرارنا على الفشل في تقديم ثقافتنا الأصلية التقديم الصحيح، والجذاب، والمثير للاهتمام، نوعاً، فقد لجأ جمهورنا، بقضه وقضيضه، إلى وسائط الآخر، وهي بالفعل الأكثر إثراء، والأكثر إغراء، والأكثر جاذبية. وهكذا، وجدنا أنفسنا مستهلكين، رغماً عنا، لثقافات غير ثقافتنا، ولأفكار غير أفكارنا، ولأنماط سلوكية هي من غير أنماطنا، بل أنها لا تلتقي في أغلبها مع رغباتنا الأصلية، ولا تتفق مع حاجات بيئاتنا، أو سياق حضارتنا. وإذا كان دخولنا المتأخر، في النظام الاتصالي الجديد، يجد تبريره ومنطقة في تخلفنا التكنولوچي؛ فإن من الصعب تبرير عجزنا التام عن إعادة إنتاج ثقافتنا الخاصة بنا، ومن ثم تعبئتها في أوعية أو قوالب وسائطية، جذابة، ومثيرة للاهتمام. لقد كان من نتائج الإنهاك الظاهر على منجزنا الإعلامي العربي، أن فقدت وسائطنا الإعلامية طريقها إلى وجدانات الناس، وبالتالي؛ ظهر الخلل جليا في وفائها بأهم مما هو مطلوب منها، ومن ذلك: أولا: القدرة على إثراء الناس في ثقافاتهم الأصلية، وبالتالي؛ تعزيز ثقتهم في تلك الثقافة. ونحسب أن هذا الأمر، بالتحديد، هو ما يعد العمق الصحيح في وظائف الإعلام على إطلاقها. ومن أجل ذلك ترصد الميزانيات الضخمة، ومن أجل ذلك أيضاً تستحضر الأفكار، ومن أجل ذلك، كذلك، تعبأ وتؤهل وتدرب الإطارات؛ البشرية؛ التي يكون في مقدرتها أن تجعل من المنجز الإعلامي منجزاً حياً، متحركاً يمشي فوق الأرض، ويغمرها بالمطر والتفاؤل. ثانياً: أظهر المنجز الإعلامي العربي الراهن، عدم القدرة، أيضاً، على الوصول إلى المستوى النابه من رسالته، وهو تعزيز فرص المقاومة، وتدعيمها، عن طريق تحصين الناس، ضد ما يمكن أن يسمى بعوامل التعرية الثقافية. وهذا التحصين، إضافة إلى زرع الثقة في الخاص وتكريسها، هو الإبداع الدائم، للبديل القوي، والجذاب، والمنافس. إننا لا نستطيع أن ندعو إلى قفل الأبواب، أو إلى سد النوافذ، أو إلى حجب أشعة الشموس، فهذا أمر لم يعد ممكناً أصلاً، حتى لو رغبنا فيه، أو طمحنا إليه. فالاجتياحات حاصلة رغم أنوفنا، والاختراقات ستتكرر كل لحظة مهما كرهنا، والصالون المفتوح المكشوف باق ومستمر ومتنام، شئنا أم لم نشأ. إن مقاومة العولمة الثقافية، ليست دعوة لقطع آصرة التفاعل الثقافي مع العالم الخارجي، أو الانكفاء الثقافي للمغلوب إلى منظوماته المعرفية والثقافية التقليدية. إن مقاومة العولمة، في نظر بعض الباحثين، هي شكل من أشكال الممانعة ضد الاستسلام، وهي أيضاً محاولة للبحث عن نقطة توازن في مواجهة عصف التيار الثقافي الجارف، ولكنها، في كل الأحوال، تظل محاولة سلبية للدفاع عن الثقافة والأنا الجمعي، وهي مقاومة خاسرة، إن لم تتحول إلى مقاومة إيجابية، تتسلح بالأدوات نفسها، التي حققت عولمة ثقافة الآخر. الحرية إن أساس الفلاح في المقاومة؛ هو الثقة في الخاص، والثقة في النفس، وهذه الثقة هي التي تبدد الهلع، عند العرب، من رياح الحرية. فالحرية، هي التي تجعل الأجيال تقبل علينا وعلى ما عندنا باقتناع وإيمان وفداء. والحرية، هي التي ستعمل على حشد الناس حول ما يحسون أنه لهم ومنهم وفيهم، والناس بطبيعتهم يمقتون الإكراه ويفرون من القسر، وإذا رضخوا لهما، فهم أجساد هامدة، وهم أقرب إلى التمرد والعصيان في السر دائماً، وفي العلن، كلما وجدوا فرصة لذلك. وفي ظل ما هو متاح اليوم لشباب العرب والمسلمين من اطلاع واحتكاك بثقافات الشعوب الأخرى، وهو كثير، هل رأينا إلا المزيد من التشبث بالعقيدة والتراث والهوية الوطنية؟ ومهما قيل عن أسباب الصحوة الدينية، التي نلاحظها في كل مكان على خريطة العالم الإسلامي، فلا يمكن إلاّ أن يكون من أهم أسبابها؛ احتشاد الناس حول عقيدتهم، وحول المصير الغامض لأوطانهم وثقافاتهم، لشعورهم المتزايد بأن هذه الأشياء لهم ومنهم وفيهم، وأنها هي الهوية التي ستقيهم شر الذوبان في سواهم، وهم لا يريدون أبداً أن يكونوا سواهم. بل لعل من أسباب التطرف في تلك الصحوة، من جهة، ومن دوافع التشبث الشديد بالوطن ووحدته، من جهة أخرى، الشعور بالهلاك وبالظلم، وبطغيان الأقوياء، الذين أخذونا، ومسخونا، وهم في أقوالهم وتصرفاتهم لا يبدون أي فهم لنا، أو لثقافتنا، أو لخصوصياتنا. لابد أن ندرك، بأن الحرية، في قرننا الجديد، هي القيمة الأعلى والأقوى من حيث الازدياد والتكاثر السريعين في الفضاء الذي تشغله أو تسبح فيه. فكأن هذا القرن هو قرن الحرية، سلباً أو إيجاباً. فلم يعد هناك، اليوم، أي أهمية للحُجّاب والحراس والبوابين، الذين كانوا يسمحون بالدخول لمن يريدون، ويمنعون من ذلك من لا يريدون. الأبواب كلها أضحت اليوم مفتوحة، والنوافذ جميعها أصبحت مشرعة، ومنابر الكلام الجديدة ما تبرح منصوبة لكل من يريد الكلام. والدولة التي لا تستطيع أن تقفل فضاءاتها لصدّ القادم من الخارج هي اليوم عاجزة، أو شبه عاجزة، عن مجابهة أو مواجهة ما ينتج حتى في الداخل، وهذه هي إحدى سلطات الثورة الاتصالية والثقافية الجديدة، فلا حيلة ممكنة في مواجهتها، وإذا بقيت، حتى الآن، بعض الحيل القليلة؛ فهي في طريقها إلى الزوال، لسبب بسيط، هو أن العالم يتغير، والتقنية تتجدد، وهي ستتخلص من كل العوائق والسدود، مهما كان حجمها، ومهما كانت قوتها. وبدلاً من الإنشغال بتلك الحيل القليلة الباقية، الآيلة للزوال حتماً، لماذا لا نفكر، منذ الآن، بل منذ الأمس، في إعداد الخطط والبرامج للبدائل الأجدى والأنفع والأرسخ، من أجل تنمية إعلامية وثقافية مستدامة.. طويلة.. ومن أجل بناء وحدة وطنية متماسكة، ومن أجل الحفاظ على الهوية التي لا تقبل أجيالنا بديلاً عنها. ولنظهر نحن، أمام تلك الأجيال، بأننا نمنحها الثقة، وأننا نحن الذين نمنحها الحرية، في زمان لم يعد لدينا السلطة الكاملة عليه. زمان أصبح فيه الكاتب هو الناشر وهو الرقيب، ومدونته الإلكترونية المشاعة، هي صحيفته، وهي كتابه، وهي منبره. في زمان أصبح المتلقي فيه شريكاً فاعلاً في صناعة الفكرة، وفي صياغة الرسالة، فهو يقرأها، وهو يكتبها، وهو يودعها عقله ووجدانه. وهذه هي ثقافة اليوم، وثقافة الغد، الثقافة التي تمتد أفقياً، فلا تنصب على الرؤوس رأسياً، فنحن في عصر الإعلام التفاعلي الذي سيكتسح كل شيء، وفي مقدمة ذلك الإعلام التقليدي. فالكل في الإعلام التفاعلي يقول، والكل يتكلم، ولا سلطة لأحد على أحد. فقد عمدت دور صحفية في العالم، الذي أدرك حجم ما يتعرض له الكوكب من تغيير، إلى إصدار طبعات مجانية إضافية من صحفها، يقوم بكتابتها وإعدادها الناس والقراء أنفسهم، وهي تعتمد على القصة الخبرية. وقد بلغ عدد هؤلاء في واحدة من تلك الصحف، في الدنمارك، أكثر من مليون محرر. هذا فضلاً عن فتح أبوابها ونوافذها لاستقبال المشاركات على الطبعات الأخرى للصحيفة، وعلى مواقعها الإلكترونية، ونشاطاتها الأخرى السمعية والبصرية. لقد أصبح الإعلام صناعة للجميع. وهذه الصحيفة الدنماركية هي صحيفة محلية تصدر في مدينة صغيرة، وتحقق، من وسائطها المتعددة، دخلاً سنوياً يفوق 150 مليون يورو في السنة. أي ما يوازي دخل عدد لا بأس به من الصحف الكبرى في منطقتنا العربية. نحن، أيضاً، في عصر التعليم المفتوح، والجامعات والمعاهد الافتراضية، وقد نتلقى تعليمنا من مدرس موجود في ستكهولم ونحن بين جدران منازلنا في صنعاء أو القاهرة أو الرياض. وشركاؤنا في الفصل الدراسي قد يكونون، في الوقت ذاته، موجودين في أستراليا والجابون والبرازيل وبكين وطوكيو. يمكنك أن تختار المعلم الذي تريد، والعلم الذي تريد، من أي مكان تريد، دون أن تستأذن أحد، ودون أن تبرح مدينتك أو قريتك الصغيرة. نحن في عصر جعل المتحف البريطاني ومكتبة الكونغرس ومكتبات اسطنبول، في متناول يدك وأنت في أقصى الشرق أو أقصى الغرب، أو في أعلى الشمال أو في أسفل الجنوب. وبإمكانك أن تقرأ الواشنطن بوست أو اللوموند أو أي صحيفة أخرى كبرى تصدر في العالم، وأنت في أي جهة من جهات الدنيا. وبإمكانك أن تصنع لك أصدقاء ورفقاء في أي مكان فوق الكوكب، وتحاورهم ويحاورونك، وتتبادل معهم المعلومات والأشكال والصور، وتقول لهم ما تشاء، ويقولون لك ما يشاءون، وأنت قابع في كوخك الصغير، في مدينتك أو قريتك النائية. وهذا كله؛ إنما جاء نتيجة إعجاز العصر الجديد؛ الإنترنت والإيميل، ورسائل الــ SMS أو الجوال، والبلوتوث، والترانسفير جيت الجديد. فهذه التقنيات أعطت، مجدداً، للمكان مفهومه الأحدث، فهو بلا أسوار أو حوائط أو سقوف. أي أن المكان هو كل مكان، إنه في متناولك، وهو أقرب منك إليك. وها هي تلك التقنيات ذاتها، جعلت للزمن أيضاً مفهومه الأحدث، فهو فوق الرياضيات والفيزياء، وهو يتداخل فيه الليل والنهار، وتتماهى فيه الساعات والدقائق والثواني، فأنت ماثل في كل اللحظات. ولم يعد من المستغرب، أو المستنكر، المثير للدهشة، أن تخرج اللوموند أو الهيرالد تربيون، أو باقي صحف العالم، بالخبر الرئيسي في صفحاتها الأولى، عن أنباء تتردد حول صفقة فشلت عن شراء مايكروسوفت لمحرك البحث «ياهو» بأكثر من 45 مليار دولار أمريكي. هذا هو الحدث اليوم، الخبر المعرفي، الذي احتل مكان الخبر السياسي في صحف العالم. والبطل لم يعد صانع السياسة، بل هو صانع المعرفة. والهدف الأقوى لم يعد فتح الأمصار، ولم يعد الاستحواذ على منابع المواد الخام، بل هو الغزو المعرفي، أو الغزو من أجل تعزيز الاقتصاد الجديد، اقتصاد المعرفة. وفي هذا السياق، وفي سياق المفهوم الجديد لانتقال المعرفة وتداول المعلومات؛ عمدت الدور الصحفية المهمة إلى إضافة بدائل جديدة إلى منتجها التقليدي (الصحافة الورقية)، فهي تكون On Line، ليس فقط من خلال مواقعها الإلكترونية، وإنما من خلال منتجات أخرى إذاعية مسموعة، ومسموعة مرئية، من خلال الــ Web. ومن خلال الطبعات المجانية. والصحفي الحديث اليوم هو الصحفي الذي يؤدي جميع هذه الأدوار بكفاءة ومهنية عاليتين. والهدف، دائماً، هو الوصول إلى الناس عبر كل الطرق، ومن خلال جميع الوسائل المتاحة. أين نحن من هذه الثورات؟ إن بناء أجيال تؤمن بالحرية والمستقبل، هو التحدي القائم والماثل للقرن الميلادي الواحد والعشرين، وهو قرن المعرفة، وقرن حرية المعرفة، وقرن سرعة انتقال المعرفة. فلم يعد من اللازم للدول التي تطمح إلى الرفعة والسؤدد وقوة السلطان، أن تبني الجيوش العسكرية، وأن تتوسع، وأن تقهر التضاريس، وأن تغير ملامح الجغرافيا. لم يعد من اللازم أن تفعل كل ذلك؛ لأن مفهوم القوة، ومكونات القوة، قد تغيرت. فالمعرفة، اليوم، هي القوة، واقتصادات المعرفة تعد أحد أهم مصادر الرفاه والرخاء. ولكي تصل إلى خيرات العالم، ولكي تستحوذ على نصيبك منها، لست في حاجة إلى الانتقال من مكانك، ولست في حاجة إلى اختراق صفوف المحاربين، ولست في حاجة إلى التضحية بالآلاف من أبنائك في ساحات المعارك أو في حلبات الوغى. فبدلاً من تسليح هؤلاء الأبناء بالنار والبارود ليجلبوا لك الغنائم، عليك أن تسلحهم برحيق المعرفة، سلاح العالم الجديد، فبها وحدها سيفتحون الأمصار، وبها وحدها سيتجاوزون إلى النصر، وسيوفرون الرفاه والرخاء. كلمة أخيرة هذا ما لدينا من شروط قرننا أو عصرنا الجديد. فهو قرن يختلف عن كل ما سواه من القرون والعصور. في ملامحه، وفي أدواته، وفي تحدياته. ونقول بأن وسائلنا وطرق تفكيرنا التقليدية لا تجدي معه شيئاً أبداً. ونحن في تصرفاتنا معه، وممارساتنا حياله، نطبق السياسات القديمة في كسب الوقت دون أن نعي أننا في واقع الأمر نخسر الوقت. وهو سيأكلنا إن لم نأكله. وهو سيلتهمنا إن لم نواجهه. بلغته، وبحساباته، وبمنهجه في مطاردة المستقبل. رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام - الرياض. المصدر: محاضرة ألقيت في ندوة «الإعلام في زمن العولمة» المنعقدة ضمن برنامج النشاط الثقافي في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) بالرياض - 1429هـ - بتصرف. لا دار للمـرء بعد الموت يسكنهاإلا التي كان قبل الموت يـبنيها فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنهاوإن بناها بـشـرٍ خاب بانيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه اللهم اعنا علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
el.za3eem بتاريخ: 16 أبريل 2008 تقديم بلاغ بتاريخ: 16 أبريل 2008 مشكور اشتاذ بس يا ريت لو ممكن توفر موضوع عن العولمة ومهنة المحاسبة ضروري جدا
خالد حسينى بتاريخ: 16 أبريل 2008 تقديم بلاغ بتاريخ: 16 أبريل 2008 السلام عليكم هذا بحث عن أثر العولمه على مهنه المحاسبه فى سوريا http://www.baa.group.shef.ac.uk/events/conference/2008/papers/gallhofer.pdf دكتور/ خالد حسينى جامعه استيرلنج - بريطانيا http://www.accountingandfinance.stir.ac.uk/staff/list/khaledhomepage.php
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان