اذهب إلى المحتوى

Recommended Posts

مَن سيدفع فاتورة خطة الإنقاذ؟ Posted Image

د. حمزة بن محمد السالم - 08/10/1429هـ

تباكى مشفقون عندما انهارت مؤسسة استثمارية أمريكية كبرى خوفا من تبعيات ذلك على الاقتصاد العالمي بينما شمت شامتون وتأملوا مستبشرين بانهيار أمريكا ونظّر منظرون في ثبات بطلان الرأسمالية، واستخدم أذكياء خبثهم فرقّّصوا صعودا وهبوطا سوق الأسهم (المحلي السعودي). والأزمة المالية هذه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فالأمر كله لا يعدوا أن يكون حلقة أخرى من حلقات استخدام أمريكا لهيمنة الدولار وكونه عملة الاحتياط (بدلا من الذهب) من أجل أن يعيش الأمريكي في رفاهية على حساب العالم أجمع بلا استثناء. فما هذه الأزمة المالية وما حقيقة خطة إنقاذها؟ هي ببساطة أن الأموال قد قُدمت بسهولة وبرخص لتمويل نمو الاقتصاد الأمريكي، ولمنع انكماش كان متوقعا وطبيعيا عام 2001م بعد أطول فترة ازدهار ونمو عاشتها أمريكا، وذلك بطريقة "سجل على الدفتر يا ولد". وعندما يمتلئ الدفتر بالديون يُحول ما به من الديون على العالم الخارجي عن طريق بيع بعض مستحقاته للمستثمرين الأجانب (وهذا هو الجديد في هذه الأزمة عن سابقاتها). وعندما لا يوجد من يشتري سجلات (سندات) هذا الدفتر( دفتر الديون) تجاريا نظرا لارتفاع المخاطرة تصبح البنوك الأمريكية عاجزة عن تقديم المزيد من التسهيلات للشعب الأمريكي وسينقطع التمويل السهل والرخيص فتزول بذلك الدعامات التي كانت تمنع الاقتصاد من أخذ دورته الطبيعية (أي الانكماش بعد الازدهار) فهنا يقوم بوش الابن باقتراح خطة إنقاذ مالية تُجير بها هذه الديون (قروض المنازل) على دول العالم بطريقة رسمية (السندات الحكومية)، ولا تكتفي الحكومة الأمريكية بذلك بل تنتهز الفرصة لضمان زيادة واستمرارية خفض الضرائب وتقديم التمويلات والتسهيلات للشعب الأمريكي لخمس سنوات أخرى تحت اسم خطة الإنقاذ المالي والتي سيدفع فاتورتها دول العالم الأخرى. وهذا ليس بجديد على أمريكا سواء من حيث تحميل الديون على الآخرين عن طريق السندات الأمريكية أو من حيث الأزمة نفسها، فقد مرت أمريكا حديثاً بأزمة مشابهة للأزمة الحالية تماما من حيث المسببات وذلك في عام 1987-1988م مع اختلافات بسيطة، غير أن الرئيس الأمريكي الحالي لا يريد لهذه الأزمة أن تنتج نفس نتائج الأزمة المشابهة لها في أواخر الثمانينيات، تماما كما أنه استطاع منع الدورة الاقتصادية من أخذ دورتها في الانكماش رافعا بذلك الدين الوطني الأمريكي من 5.5 تريليون دولار إلى 10 تريليونات دولار في عهد رئاسته فقط، أي أن بوش الابن وحده قد أنفق على مصالح بلاده من جيوب الدول الأخرى (وغالبها هي الصين واليابان ودول الخليج) ما يقارب 45 ضعف الميزانية السعودية الأخيرة، ولننتقل من الإيجاز المبهم إلى التفصيل الميسر.

إفلاس البنوك في أمريكا أمر طبيعي ويتكرر سنويا مثلها مثل كل دول العالم باستثناء دول الخليج والدنمارك وبعض الدول الصغيرة في أمريكا الجنوبية. فمنذ عام 1934م لم يمر عام من غير أن تعلن مجموعة من البنوك في أمريكا إفلاسها، اللهم باستثناء عامي2005م و2006م. وقد وصلت ذروة إفلاس البنوك في أمريكا خلال فترة أزمة بنوك الإيداع والإقراض التي تهاونت وتهورت في الإقراض من أجل تسهيل شراء البيوت للأمريكيين أي من عام 1986-1995م وذلك يشمل آخر عهد ريجان مرورا بفترة بوش الأب كلها وانتهاء بأوائل الفترة الرئاسية لكلينتون. فقد وصل مجموع إفلاس البنوك آنذاك إلى ما يقارب 2377 بنكا تحققت ذروتها في إفلاس 1004 بنوك خلال فترة رئاسة بوش الأب عامي 1988 و1989م أي بمعدل إفلاس بنكين كل ثلاثة أيام تقريبا. (ولا أريد أن يُستوحى من كلامي هنا تشابها بين بوش الابن وبوش الأب في السياسات الاقتصادية، فبوش الابن سار على خطى أبيه في السياسات العسكرية بينما اقتفى أثر سلفه ريجان في السياسات الاقتصادية ولكنه كان في الحالين عنيفا ومتهورا ويأتي تفصيل ذلك لاحقا).

الأزمة المالية الحالية سببها المباشر هو التوسع في الإقراض مقابل الرهن العقاري خلال فترة طفرة في أسعار العقارات الناتجة عن نمو اقتصادي قوي أي أنها السبب المباشر نفسه لأزمة أواخر الثمانينيات. ورجوعا إلى الثمانينيات لكي نفهم الوضع الذي نعيشه الآن، فقد تولى الرئيس ريجان الرئاسة بعد كارتر والاقتصاد الأمريكي يمر بأسوأ مراحله فتوسع في الإنفاق الحكومي وخفف الضرائب وأتى بجرينسبان، رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) السابق، الذي خفض سعر الفائدة (أي رخص التمويل) فازدهرت البلاد واشتغلت المصانع وأصبح الأمريكي قادرا على العمل وعلى الإنفاق، كما أن انخفاض الفائدة الذي قام به جرينسبان أرخص الدولار مما زاد السيولة ورفع من تنافسية البضائع والخدمات الأمريكية داخليا وخارجيا. وفي أجواء الانتعاش والازدهار الاقتصادي تبدأ الأسعار بالارتفاع فوق السعر العادل وذلك لتوقعات الناس التفاؤلية المستقبلية وخاصة أسعار السلع غير القابلة للاستيراد والمحدودة كماً ومن أهمها العقارات. وبما أن الناس قد حصلوا على وظائف ذات رواتب عالية فتراهم يقبلون على شراء منزل للسكن وآخر لموسم الشاطئ وثالث لموسم التزلج فترتفع الأسعار وينشط البناء والعمران وتتسابق البنوك والمؤسسات المالية على تقديم القروض على حساب تخفيض أسعار الفائدة وتقليل الدفعة الأولى المقدمة والتهاون في الشروط اللازم تحققها في المتمول. ولكل بداية نهاية.

تبدأ نهاية صعود الدورة الاقتصادية عندما يشعر المجتمع الاقتصادي بأن قيمة ما يستثمره أكبر من الطاقة الإنتاجية لأفراد المجتمع أي سكان البلد، أو /و أكبر من الحاجة الاستهلاكية، أو/ و التوقعات بتطور الإنتاج غير عقلانية فهنا تبدأ دورة الانكماش وتكون بدايتها بانهيارات في أسواق الأسهم والسندات وتنتهي بانهيار سوق العقار فإذا تجاوزت دورة الانكماش ذلك إلى انهيار النظام البنكي فهنا البلاد تمر بكارثة اقتصادية كالتي مرت بها أمريكا في الثلاثينات.

وكما أن في فترة الازدهار الأسعار لا تكون عادلة ارتفاعا، فإن في فترة الانكماش الأسعار لا تكون عادلة انخفاضا. وهذا ما حدث تماما في أواخر الثمانينيات فبدأ الانكماش ووصل ذروته بالإثنين الأسود 1987م وبانهيار المئات من البنوك الأمريكية في أسابيع. ثم عادت الدورة الاقتصادية في الصعود وكان حافزها هو ثورة التقنية والإنترنت (دوت كم) والتي بلغت ذروتها في أواخر التسعينيات ثم بدأت الدورة الاقتصادية بالانكماش ابتداء بانهيار سوق الأسهم عام 2000م. وكان من المفترض أن تأخذ الدورة دورتها إلا أن الرئيس الجديد بوش الابن كان قد عقد النية على منع ذلك فتوسع في الإنفاق الحكومي وأزال قدرا عظيما من الضرائب عن الأمريكيين فحفز الإنتاج والاستهلاك ثم جاء الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) فدخل معه جرينسبان في عزمه هذا وخفض الفائدة وأرخص الدولار وتحركت البلاد كلها تحركا وطنيا لإبطال الآثار الاقتصادية التي كانت أحد أهداف هجوم 11 من أيلول (سبتمبر) كما فُتحت جبهات الحرب على الإرهاب في أفغانستان وفي العراق فتضاعف الإنفاق الحكومي مما فتح مجالات العمل والإنتاج في كثير من القطاعات فكانت الدورة الاقتصادية في انكماشها بسيطة جدا وقصيرة لم تتجاوز ستة أشهر من آذار (مارس) 2001م إلى تشرين الثاني (نوفمبر) 2001م وهي أقصر وأبسط دورة انكماشية مرت على تاريخ الولايات المتحدة. وفي حزيران (يونيو) 2005م توقفت أسعار العقارات عن ارتفاعها بعد أن وصلت حدا مبالغا فيه ثم بدأت بالنزول حتى أصبحت أسعارها أقل من نصف قيمة القروض المرهونة بها مما جعل البعض يتوقف عن السداد مخاطرا بمنزله عوضا عن دفع أقساط قيمة منزل لا يساوي نصف قيمة رهنه وهذا الذي أشعل فتيل الأزمة، فلا يوجد لدى البنك حيلة سوى بيع المنزل ويخسر البنك بذلك نصف ما له من الدين، وبما أن البنك يحتفظ احتياطا بنسبة تراوح بين5 و10 في المائة من أموال المودعين تحت الطلب و0 في المائة من الودائع في حساب الادخار حسب القوانين الأمريكية فالبنك المتهور الذي لم يترك احتياطيات كافية لا بد له من أن يعلن إفلاسه لعدم وجود موجودات تغطي أموال المودعين فضلا عن أن يستطيع البنك بالقيام بعمله كممول للمجتمع الاقتصادي. وأما بالنسبة لصاحب المنزل المتمول أو المقترض فما عليه إلا أن يعلن الإفلاس وبعد سبع سنوات يمسح إفلاسه ذلك من سجله الائتماني. وذلك أفضل من الاستمرار في دفع الأقساط لمدة 30 عاما لمنزل لا يساوي نصف قيمته ويستطيع أن يحصل على تمويل لمنزل آخر بعد سبع سنوات. وللعلم فاتباعا لقوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) فإنه يمنع ولا يجوز قانونيا في أمريكا السجن مع الإفلاس أو الحجر على الراتب كما هو مطبق عندنا هنا في بلادنا.

لا دار للمـرء بعد الموت يسكنهاإلا التي كان قبل الموت يـبنيها

فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنهاوإن بناها بـشـرٍ خاب بانيها

علي بن أبي طالب رضي الله عنه

اللهم اعنا علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
×
×
  • أضف...